الثلاثاء، 14 أكتوبر 2014

"حول الانسان وذاكرة المكان" حلقه خاصه عن نكسة "حزيران" وتداعياتها الفكريه



بكيت كما بكى جيلي نكسة حزيران67 عندها لم أكن اتجاوز الثانية عشرة من عمري، شكلت لي تلك المرحلة وعيا جديدا بأهمية القراءة على سماع المذياع، قبل هذه النكسة - واحيانا تسمى النكبة ايماء لفداحتها على الأمة - كان المذياع هو مصدر التلقين الرئيسي وبالذات صوت العرب واحمد سعيد ومن بعده محمدعروق الذي اصبح فيما بعد مديرا لها.

كما كانت برامج مثل «أكاذيب تكشفها حقائق» ونداء الافتتاح الصباحي لكل العرب المصاحب بأغنية «أمجاد ياعرب أمجاد» لكارم محمود هما زادي الثقافي اليومي. كان المد القومي الناصري في أوجه وكان خليجنا العربي الهادي يتلقي الاشارات من قلب الأمة العربية في القاهرة، العزف على لحن القومية وأمجادها جميل في تلك الايام، في قطر لم نكن نشعر بالاستعمار ولانحس بوطأته فلم يكن لبريطانيا سوى الشأن الخارجي، ولكن استطاع المد القومي يومها دمج المشاعر العربية بعضها ببعض حتى كنا نتظاهر من اجل الجزائر وننادي بعروبة «الأحواز» على الشاطئ المقابل في خليجنا العربي.

كان صوت الزعيم عبدالناصر هو ثقافتنا ومصدر إلهامنا وتطلعاتنا للمستقبل. هذا هو النسق الثقافي السائد والذي عايشته في شبابي الأول «ثقافة الصوت الوطني» لاأستطيع هنا أن أعيب تلك الثقافة اليوم ولاملكة الفكر لدى جيلي في تلك الأيام فالعصر له خطابه الخاص به في كل مرحلة وكانت تلك الثقافة خطاب ذلك العصر، وتصور الحكمة عند النظر للماضي من بعيد تصور ساذج لأنه احساس طبيعي وفي سياق الطبيعة الانسانية.

بعد النكسة اختلف الوضع بالنسبة لي فبقدر ما كانت نكسة على الأمة كانت بالاضافة الى ذلك صدمة بالنسبة لي، لم أعد أثق بالمذياع ولابالمذيع ولا بالاذاعات العربية. من هنا تبدى لي خيط آخر هو خيط القراءة والبحث في الورق عن الحقائق.

كان أخي الأكبر «خالد» يأتي بصحف المملكة العربية السعودية التي كانت على ما أظن توزع مجانا في قطر مثل صحيفة « الندوة» وصحيفة «البلاد» لم تكونا صحيفتي رأي بل كانتا عبارة عن صور وأخبار للنظام السعودي حينذاك أيام المغفور له الملك «فيصل» ومع ذلك عرفت من خلالها الشكل الصحفي حيث كانت جيدة الاخراج ولكن أخي بعد ذلك أحدث تطورا نوعيا في مطالعاته عندما أحضر كتابا لأحمد الشقيري رئيس منظمة التحرير الفلسطينية الأسبق واسمه «حوار وأسرار مع الملوك والرؤساء العرب» وهو من عدة أجزاء أذكر أنني قرأته كله بأجزائه الثلاثة على ما أعتقد، ثم أطلعني على كتاب آخر اسمه «الاسلام في وجه الزحف الأحمر» وثالث بعنوان «من هنا نعلم» وهما للشيخ محمد الغزالي رحمه الله.

بعد تلك الفترة حصل تحول نوعي في ذهني ، لم أعد ببساطة ذلك المتلقي الصافي الذهن، بل بذهنية من يؤجل حتى يتبين الأمر، أو الشك الايجابي اذا أمكن التصور. وأذكر انني كنت اشتري مجلة تصدر من الكويت اسمها على ما أذكر صوت الخليج ومحررها على أذكر يسمي «باقر خريبط» على الأقل انا متأكد من الاسم الثاني وهي اسبوعية، كانت تنشر صور لنكسة العرب الكبرى في حينه ولكن بصورة مقلوبة ومعنونة بالتالي «هذا ما فعلنا باسرائيل» وهي مجموعة صور للدمار الذي اصيبت به اسرائيل وهو لا يكاد يُذكر بما قد ألحقته بنا. الوعي بالقراءة لديّ جعل من ردة الفعل عندي بطيئة وليست فورية كما كانت أيام الاعتماد على المذياع ونبرة الصوت.


..بعد ذلك كنت حريصا على اقتناء الصحف المصرية «آخر ساعة» و«المصور» بشكل أسبوعي ولم يكن هناك بدٌ من نقد الذات والبحث في اسباب الهزيمة فكنت قارئا نهما لصحوة الشارع المصري من اغواء الاعلام الزائف وكنت متابعا لمحاكمة المشير عامر حتى انتحاره أو اغتياله كما يشار اليه بعد ذلك من قبل البعض المشكك، كما كنت محايثا لعودة عبد الناصر ولكن بأقل كارزماتية في النفس من ذي قبل مع كل الحب ولكن موضوعية القراءة جعلت مني أَميل الى التيقن مني الى حماسة الخطاب وعاطفيته. لم تكن الدوحة ساعتئذ قبلة للصحافة ولا لدور النشر اللهم سوى عدة مجلات مصرية ولبنانية اذكر منها الحوادث وكويتية وبعض الصحف العربية اليومية التي تصل متأخرة وتفقد بالتالي حتى قيمتها الاخبارية، وعيت كذلك من خلال القراءة بوجود ما يسمى معارضة وبالخلاف السعودي المصري قبل الأزمة وأسبابه، كل هذه الأمور لم تكن واضحة لي قبل القراءة بالشكل الموضوعي، كان خطابا واحدا موجها نحو مواطن عاطفي أسًرته الكاريزما وملك الحلم العربي كل جوانحه. بعد تلك الفترة رجعت أبحث عن كتب قديمة كان لها تأثير لم نشعر به نحن هنا في هذه المنطقة ساعتها مثل كتاب «معالم على الطريق » لسيد قطب . علمتني النكسة ان لا أقرأ باتجاه واحد ولا أتخذ موقفا من خلال كتاب واحد ولا حتى من كتابين لم أطلع على الآخر المخالف ليتكون لدي الرأي من وضوح الطرفين والحجتين، علمتني النكسة أن أقرأ مجتمعي قراءة نقدية لذا درست علم الاجتماع، علمتني النكسة أن أقرأ الاسباب لا النتائج. علمتني القراءة كذلك أن لا أحكم على الامور دائما بالصح أو بالخطأ، علمتني القراءة أن هناك حكما آخر هو الحكم الاجتهادي الذي يؤخذ فرديا كاجتهاد فلا نتقاتل والأمر لا يتعدى كونه اجتهادا. بعدها اُصبت بداء القراءة فكنت أقرأ حتى صفحة الوفيات والافراح والمفقودين وأن أبدأ بالصفحة الأخيرة قبل الاولى لإيماني بأن الامور بخواتيمها. قرأت ما كان ممنوعا في مدارسنا ساعتئذ مثل النظرية الماركسية ووجدت لو أنها تُركت لتقرأ لقل وربما اختفى بريقها. ماذا بعد هل أشكر النكسة التي جعلت مني قارئا ومن ثم كاتبا وهل كان بكائي حينها بداية لمرحلة من الوعي الجديد بالرغم مما فيه من لوعة وألم. تعلمت أن أحترم التاريخ وشخوصه وأن أحكم عليه بظروفه. لقد كانت فترة مصيرية بالنسبة لي على الرغم من تكلفتها الكبيرة على الأمة فلذلك فإنني لا أزال أعيش وخز الضمير الذي ربط تحول حياتي بجرح الأمة الكبير الا أن التاريخ درس لمن يستلهمه في أي ساعة وتحت أي ظرف.
هناك حلقه خاصه أيضا عن "المرأه " أخت الرجال في الريان

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق